سورة النحل - تفسير تفسير الثعالبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله، منقادون لأمره عابدون له، وأنهم في ملكه وتحت قدرته، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} قال الزجاج: ذكر الاثنين توكيداً لقوله إلهين وقال: صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلهاً، ولكن اتخذوا إلهاً واحداً، وهو قوله تبارك وتعالى: {إنما هو إله واحد} لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدره والإرادة فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لايجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد {فإياي فارهبون} يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه {وله ما في السموات والأرض} لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيداً له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني، عبيداً وملكاً {وله الدين واصباً} يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائماً ثابتاً والواصب: الدائم. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبه أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً {أفغير الله تتقون} يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الانكار قوله عز وجل: {وما بكم من نعمة فمن الله} يعني من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى، إنما هو المتفضل بها على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه. ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها {ثم إذا مسَّكم الضر} أي الشدة والأمراض والأسقام {فإليه تجأرون} يعني إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر.
والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا داعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى: {ثم إذا كشف الضر عنكم} يعني ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم {إذا فريق منكم} يعني طائفة وجماعة منكم {بربهم يشركون} يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى {ليكفروا بما آتيناهم} قيل: إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل: إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء {فتمتعوا} لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد. يعني: فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم {فسوف تعلمون} يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير، وهو نزول العذاب بكم. قوله سبحانه وتعالى: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً} قيل الضمير في قوله: {لما لا يعلمون} عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون. وقيل إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئاً البتة لأنها جماد والجماد لا علم له، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى، لأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجع القول الثاني. قال: لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا إلى إضمار فيكون المعنى: ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيباً وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الاضمار لأنها لا علم لها، ولا فيهم وقوله: {مما رزقناهم} يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيباً من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام {تالله} أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {لتسألن عما كنتم تفترون} يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيباً من أموالكم، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه {ويجعلون لله البنات} هم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم {سبحانه} نزه الله نفسه عن الولد والبنات {ولهم ما يشتهون} يعني: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} يعني متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ.
وقوله سبحانه وتعالى: {وهو كظيم} يعني أنه ظل ممتلئاً غماً وحزناً {يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به} يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولداً ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى: {أيمسكه على هون} يعني على هوان، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله، وإذا بشر أحدهم {أم يدسه في التراب} يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير: إن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها: زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون فد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها: انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك:
وعمي الذي منع الوائدات *** فأحيا الوئيد فلم يوأد
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الوائدة والمؤودة في النار» أخرجه أبو داود. وقوله تعالى: {ألا ساء ما يحكمون} يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله خلقهم البنات، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمه ضيزى} وقيل: معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} يعني صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر وكراهتهم الإناث وقتلهن خوف الفقر {ولله المثل الأعلى} أي الصفة العليا المقدسة، وهي أن له التوحيد وأنه المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس: مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله {وهو العزيز} أي الممتنع في كبريائه وجلاله {الحكيم} يعني في جميع أفعاله.


قوله: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} يعني بسبب ظلمهم فيعاجلهم بالعقوبة على ظلمهم وكفرهم وعصيانهم. فإن قلت الناس اسم جنس يشمل الكل وقد قال تعالى في آية أخرى {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فقسمهم في تلك الآية ثلاثة أقسام فجعل الظالمين قسماً واحداً من ثلاثة. قلت: قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم عام مخصوص بتلك الآية الأخرى، لأن في جنس الناس الأنبياء والصالحين ومن لا يطلق عليه اسم الظلم، وقيل: أراد بالناس الكفار فقط بدليل قوله: {إن الشرك لظلم عظيم} وقوله: {وما ترك عليها} يعني على الأرض كناية عن غير مذكور لأن الدابة لا تدب إلا على الأض {من دابة} يعني أن الله سبحانه وتعالى، لو يؤاخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. قال قتادة: وقد فعل الله ذلك في زمن نوح عليه السلام وروي أن أبا هريرة سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بئس ما قلت إن الحبارى تموت هزالاً بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل تعذب في جحرها بذنب ابن آدم وقيل أراد بالدابة الكافر بدليل قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا} وقيل في معنى الآية ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد {ولكن يؤخرهم} يعني يمهلهم بفضله، وكرمه وحلمه {إلى أجل مسمى} يعني إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يعني لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله لهم ولا ينقصون عنه. وقيل: أراد بالأجل المسمى يوم القيامة، والمعنى ولكن يؤخرهم إلى يوم القيامة فيعذبهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون {ويجعلون لله ما يكرهون} يعني لأنفسهم وهي البنات {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} يعني ويقولون: إن لهم البنين وذلك أنهم قالوا: لله البنات ولنا البنون، وهذا القول كذب منهم وافتراء على الله. وقيل: أراد بالحسنى الجنة، والمعنى أنهم مع كفرهم، وقولهم الكذب يزعمون أنهم على الحق وأن لهم الجنة وذلك أنهم قالوا: إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت، فإن لنا الجنة لأنّا على الحق فأكذبهم الله فقول: {لا جرم أن لهم النار} يعني في الآخرة لا الجنة {وأنهم مفرطون} قرئ بكسر الراء مع التخفيف، يعني مسرفون وقرئ بكسر الراء مع التشديد يعني مضيعون لأمر الله وقراءة الجمهور بفتح الراء مع تخفيفها أي منسيون في النار قاله ابن عباس وقال سعيد بن جبير ومقاتل: متروكون. وقال قتادة: معجلون إلى النار. وقال الفراء: مقدمون إلى النار والفرط ما تقدم إلى الماء قبل القوم.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} يعني كما أرسلناك إلى هذه الأمة لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {فزين لهم الشيطان أعمالهم} يعني أعمالهم الخبيثة من الكفر والتكذيب، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أحداً أو يهدي أحداً، وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته {فهو وليهم} أي ناصرهم {اليوم} ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور، وإنما سماه ولياً لهم لطاعتهم إياه {ولهم عذاب أليم} يعني في الآخرة {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} يعني في أمر الدين والأحكام فتبين لهم الهدى من الضلال، والحق من الباطل والحلال من الحرام {وهدى ورحمة} يعني وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بياناً وهدى ورحمة {لقوم يؤمنون} لأنهم هم المنتفعون به قوله سبحانه وتعالى: {والله أنزل من السماء ماء} يعني المطر {فأحيا به} يعني بالماء {الأرض} يعني بالنبات والزروع {بعد موتها} يعني يبسها وجدوبتها {إن في ذلك لآية} يعني دلالة واضحة على كمال قدرتنا {لقوم يسمعون} يعني سماع إنصاف وتدبر وتفكر، لأن سماع القلوب هو النافع لا سماع الآذان فمن سمع آيات الله، أي القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع، ومن لم يسمع بقلبه لم ينتفع بالآيات {وإن لكم في الأنعام لعبرة} يعني إذا تفكرتم فيها عرفتم كمال قدرتنا على ذلك {نسقيكم مما في بطونه} الضمير عائد إلى الأنعام، وكان حقه أن يقال مما في بطونها، واختلف النحوين في الجواب، فقيل: إن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع فهو بحسب اللفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو مذكر وبحسب المعنى جميع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو مؤنث فلهذا المعنى. قال هنا مما في بطونه وقال في سورة المؤمنين: مما في بطونها. وهذا قول أبي عبيدة والأخفش وقال الكسائي: إنه رده إلى ما ذكر يعني مما في بطون ما ذكرنا، وقال غيره الكناية مردودة إلى البعض وفيه إضمار كأنه قال: نسقيكم مما في بطونه اللبن فأضمر اللبن إذ ليس لكلها لبن {من بين فرث} وهو ما في الكرش من الثفل، فإذا خرج منها لا يسمى فرثاً {ودم لبناً خالصاً} يعني من الدم والفرث ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث. قال ابن عباس: إذا أكلت الدابة العلف، واستقر في كرشها، وطبخته كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً فالكبد مسلطة عليه تقسمه بتقدير الله سبحانه وتعالى فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الثفل كما هو {سائغاً للشاربين} يعني هنيئاً سهلاً يجري في الحلق بسهولة.
قيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. هذا قول المفسرين في معنى هذه الآية. وحكى الإمام فخر الدين الرازي قول الحكماء في ذلك فقال: ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان في الكرش البتة، والدليل عليه الحس فان هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً، وما رأى أحد في كرشها دماً ولا لبناً بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء، وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً وإلى كرشه إن كان من الأنعام، وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي حصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وهو الهضم الثاني، ويكون ذلك مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية فأما الصفراء فتذهب إلى المرارة وأما السوداء فتذهب إلى الطحال، وأما المائية فتذهب إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما الدم فيذهب في الأوردة وهي العروق النابتة في الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض، فيقلب الله عز وجل ذلك الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض، فيصير الدم لبناً فهذا صورة تكوَّن اللبن في الضرع فاللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من بعض الأجزاء اللطيفة من الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش فاللبن توليد أولاً من الفرث ثم من الدم ثانياً ثم صفاه الله سبحانه وتعالى بقدرته فجعله لبناً خالصاً من بين فرث، ودم عند تولد اللبن في الضرع يخلق الله عز وجل بلطيف حكمته في حلمة الثدي ثقباً صغيراً ومسام ضيقة فيجعلها كالمصفاة للبن فكل ما كان لطيفاً من اللبن خرج بالمص أو الحلب وما كان كثيفاً احتبس في البدن، وهو المراد بقوله خالصاً هنيئاً مريئاً. قوله عز وجل: {ومن ثمرات النخيل والأعناب} يعني ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه {سكراً ورزقاً حسناً} قال ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة: السكر الخمر سميت بالمصدر من قولهم سكر سكراً، وسكراً والرزق الحسن سائر ما يتخذ من ثمرات النخيل، والأعناب مثل الدبس والتمر والزبيب والخل وغير ذلك. فإن قلت: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان؟ قلت: قال العلماء في الجواب عن هذا: إن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وقيل: إن الله عز وجل نبه في هذه الآية على تحريم الخمر أيضاً، لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً يدل على التحريم، وروى العوفي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة وقال بعضهم: السكر هو النبيذ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ ومن يحرمه يقول المراد من الآية الإخبار لا الإحلال، وأولى الأقاويل أن قوله تتخذون منه سكراً منسوخ.
سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال السكر: ما حرم من ثمراتها والرزق الحسن ما حل قلت: القول بالنسخ فيه نظر لأن قوله، ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، ومن زعم أنها منسوخة رأى أن هذه الآية نزلت بمكة في وقت إباحة الخمر ثم إن الله تبارك وتعالى حرمها بالمدينة فحكم على هذه الآية بأنها منسوخة وقال أبو عبيدة في معنى الآية: السكر الطعم يقال هذا سكر لك أي طعم لك وقال غيره: السكر ما سد الجوع من قولهم سكرت النهر أي سددته والتمر والزبيب مما يسد الجوع، وهذا شرح قول أبي عبيدة أن السكر الطعم {إن في ذلك} يعني الذي ذكر من إنعامه على عباده {لآية} يعني دلالة وحجة واضحة {لقوم يعقلون} يعني أن من كان عاقلاً استدل بهذه الآية على كمال قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلم بالضرورة أن لهذه الأشياء خالقاً، ومدبراً قادراً على ما يريد.


قوله سبحانه وتعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} لما ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته، وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته من إخراج اللبن من بين فرث، ودم وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل، والأعناب ذكر في هذه الآية إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من دابة ضعيفة، وهي النحلة فقال سبحانه وتعالى وأوحى ربك إلى النحل الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل فرد من الناس ممن له عقل، وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته، وقدرته وأصل الوحي الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز، والتعريض وقد يكون بصوت مجرد ويقال للكلمة الإلهية التي يلقيها الله إلى أنبيائه وحي وإلى أوليائه إلهام وتسخير الطير لما خلق له ومنه قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} يعني أنه سخرها لما خلقها له، وألهمها رشدها وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتاً على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة، أو غير ذلك من الأشكال لكان فيما بينها خلل ولما حصل المقصود فألهمها الله سبحانه وتعالى، أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة وألهمها الله تعالى أيضاً أن تجعل عليها أميراً كبيراً نافذ الحكم فيها وهي تطيعه، وتمتثل أمره ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة ويسمى يعسوب النحل يعني ملكها كذا حكاه الجوهري وألهمها الله سبحانه وتعالى أيضاً أنها تخرج من بيوتها، فتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها، ولا تضل عنها. ولما امتار هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة، الدالة على مزيد الذكاء والفطنة دل ذلك على الإلهام الإلهي فكان ذلك شبيهاً بالوحي، فلذلك قال تبارك وتعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} والنحل زنبور العسل ويسمى الدبر أيضاً، قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأن الله سبحانه وتعالى، نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها بمعنى أعطاهم. وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، وكذا أنثها الله تعالى فقال {ثم كلي من كل الثمرات} يعني من بعض الثمرات لأنه لا تأكل من جميع الثمار فلفظه كل هاهنا ليست للعموم {فاسلكي سبل ربك} يعني الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها لأجل طلب الثمرات {ذللاً} قيل إنها نعت للسبل يعني أنها مذللة لكل الطرق مسهلة لك مسالكها. قال مجاهد: لا يتوعر عليها مكان تسلكه. وقيل: الذلل نعت للنحل يعني أنها مذللة مسخرة لأربابها مطيعة منقادة لهم حتى أنهم ينقلونها من مكانها إلى مكان آخر حيث شاؤوا! وأرادوا لا تستعصي عليهم {يخرج من بطونها شراب} يعني العسل {مختلف ألوانه} يعني ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل.
وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب، وزعم الإمام فخر الدين الرازي أنه رأى في بعض كتب الطب، أن العسل طل من السماء ينزل كالترتجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه، وتدخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأن طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل، وأيضاً فإنا نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل وأجاب عن قوله تعالى: {يخرج من بطونها} بأن كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً، فقوله: {يخرج من بطونها} يعني من أفواهها، وقول أهل الظاهر أولى وأصح لأنا نشاهد أنه يوجد في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل، وكذلك يوجد لونها وطعمها فيه أيضاً ويعضد هذا قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قالت: جرست نحلة العرفط. العرفط شجر الطلح، وله صمغ يقال لهم المغافير كريه الرائحة فمعنى جرست نحلة العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا الدليل صحة أهل الظاهر من المفسرين، وأنه يوجد طعم العسل، ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلاًّ لكان على لون واحد وطبيعة واحدة. وقله: إنه طبيعة العسل تقرب من طبيعة الترنجبين فيه نظر، لأن مزاج الترنجبين معتدل إلى الحرارة، وهو ألطف من السكر ومزاج العسل حار يابس في الدرجة الثانية فبينهما فرق كبير. وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً فيه نظر، لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد إلا العضو المعروف مثل بطن الإنسان، وغيره والله أعلم. وقوله تعالى: {فيه} يعني في الشراب الذي يخرج من بطون النحل {شفاء للناس} وهذا قول ابن عباس وابن مسعود إذ الضمير في قوله فيه شفاء للناس، يرجع إلى العسل، وقد اختلفوا في هذا الشفاء هل هو على العموم لكل مرض، أو على الخصوص لمرض دون مرض، على قولين: أحدهما أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض، قال ابن مسعود: «العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور» وفي رواية أخرى عنه «عليك بالشفائين القرآن والعسل» وروى نافع أن ابن عمر ما كانت تخرج به قرحة، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل ويقرأ: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس}.
(ق) عن أبي سعيد الخدري قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقه عسلاً فسقاه ثم جاء فقال: إني سيقته عسلاً فلم يزده إلا إستطلاقاً فقال له: ثلاث مرات ثم جاء الرابعة: فقال: اسقه عسلاً، فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا إستطلاقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ» وقد اعترض بعض الملحدين، ومن في قلبه مرض على هذا الحديث. فقال: إن الأطباء مجمعون على أن مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال فنقول في الرد على هذا المعترض الملحد الجاهل بعلم الطب أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخم، والهيضات، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فمضر عندهم، واستعجال مرض فيحتمل أن يكون إسهال الشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة، فدواؤه بترك إسهاله على ما هو عليه أو تقويته فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم العسل فزاده إسهالاً فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال ويكون الخلط الذي كان به يوافقه شرب العسل، فثبت بما ذكرناه أن أمره صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل بشرب العسل جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه جاهل لها ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء: بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك وإنما ذكرنا هذا الجواب الجاري على صناعة الطب، دفعاً لهذا المعترض بأنه لا يحسن صناعة الطب التي اعترض بها والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم، علم بالوحي الإلهي أن العسل، الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك فلما لم يظهر نفعه في الحال عندهم قال: صدق الله يعني فيما وعد به من أن فيه شفاء وكذب بطن أخيك يعني باستعجالك للشفاء في أول مرة والله أعلم بمراده، وأسرار رسوله صلى لله عليه سلم فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس، وهو يضر بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة ويضر بالشباب المحرورين ويعطش، قلنا: في الجواب عن هذا الاعتراض أيضاً: إن قوله فيه شفاء للناس مع أنه يضر بأصحاب الصفراء، ويهيج الحرارة أنه خرج مخرج الأغلب، وأنه في الأغلب فيه شفاء، ولم يقل: إنه شفاء لكل الناس لكل داء ولكنه في الجملة دواء وإن نفعه أكثر من مضرته، وقل معجون من المعاجين إلا وتمامه به.
والأشربة المتخذة من العسل نافعة لأصحاب البلغم والشيوخ المبرودين، ومنافعه كثيرة جداً، والقول الثاني: أنه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه وهذا قول السدي وقال مجاهد: في قوله فيه شفاء للناس يعني القرآن لأنه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة وهو هدى ورحمة للناس، والقول الأول أصح لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات، وأقربها قوله تعالى يخرج من بطونها شراب وهو العسل فهو أولى أن يرجع الضمير إليه لأنه أقرب مذكور. وقوله سبحانه وتعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} يعني فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا. قوله عز وجل: {والله خلقكم} يعني أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً {ثم يتوفاكم} يعني عند انقضاء آجالكم إما صبياناً وإما شباناً وإما كهولاً {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} يعني أراده وأضعفه وهو الهرم قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب أولها من النشوء والنماء، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو غاية سن الشاب وبلوغ الأشد ثم المرتبة الثانية: سن الوقوف، وهو من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة، وهو غاية القوة وكمال العقل ثم المرتبة الثالثة: سن الكهولة، وهو من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع الإنسان في النقص لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر ثم المرتبة الرابعة: سن الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر، وفيها يتبين النقص، ويكون الهرم والخوف. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقيل ثمانون سنة وقال قتادة تسعون سنة.
(ق) عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» وفي رواية أخرى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» وقوله تعالى: {لكيلا يعلم بعد علم شيئاً} يعني الإنسان يردع إلى حالة الطفولية بنسيان ما كان علم بسبب الكبر، وقال ابن عباس: لكي يصير كالصبي لا عقل له. وقال ابن قتيبة: معناه حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً لشدة هرمه. وقال الزجاج: المعنى وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفاً فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً، ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل هكذا، وجدته منقولاً عنه ولو قال: ليريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته ليكون ذلك دليلاً على صحة هذا البعث، بعد الموت لكان أجود.
قال ابن عباس: ليس هذا في المسلمين لأن المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلاً ومعرفة. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئاً. وقال في قوله: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} هم الذين قرؤوا القرآن وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين} يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقوله تعالى: {إن الله عليم} يعني بما صنع بأوليائه وأعدائه {قدير} يعني على ما يريد قوله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} يعني أن الله سبحانه وتعالى بسط على واحد وضيق وقتر على واحد وكثر لواحد وقلل على آخر، وكما فضل بعضكم على بعض في الرزق، كذلك فضل بعضكم على بعض في الخلق والخلق والعقل والصحة والسقم والحسن، والقبح والعلم والجهل وغير ذلك. فهم متفاوتون ومتباينون في ذلك كله، وهذا مما اقتضته الحكمة الإلهية والقدرة الربانية {فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم} يعني من العبيد حتى يستووا فيه هم وعبيدهم يقول الله سبحانه وتعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني يلزم بهذه الحجة المشركين حيث جعلوا الأصنام شركاء لله قال قتادة: هذا مثل ضربه الله عز وجل. يقول: هل منكم أحد يرضى أن يشركه مملوكه في جميع ماله فكيف تعدلون بالله خلقه وعباده، وقيل: في معنى الآية أن الموالي والمماليك الله رازقهم جميعاً {فهم فيه} يعني في رزقه {سواء} فلا تحسبن أن الموالي يردون رزقهم على مماليكهم من عند أنفسهم، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك، والمقصود منه بيان أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه وأن الموالي والمماليك في الرزق سواء وأن المالك لا يرزق المملوك، بل الرازق للمماليك والمالك هو الله سبحانه وتعالى. وقوله: {أفبعنمة الله يجحدون} فيه إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبد وا غيره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7